بحث

11/06/2014

ساعة في الجحيم - الجزء الأول




لا يمكننا الحديث عن القطارات في المغرب دون الحديث عن التأخرات المتكررة..
تأخر القطار هذه المرة نصف ساعة عن موعده المقرر..
نصف ساعة تمت سرقتها من حياتي ومن حياة كل مسافر كان ينتظر هذا القطار..
لكننا على ما يبدو..تعودنا على ذلك..
كان الجو مشمسا وساخنا..وكنت أمني نفسي أن القطار القادم سيكون ثلاجة مكيفة وليس حماما تركيا..
تخيلت المشهد وعشته للحظات..
فلننظر هل سافلح في قانون الجذب هذه المرة..
صوت صافرة من بعيد..لقد جاء القطار..تقدم المسافرون على الرصيف يتسابقون..
همهم الوحيد..الحصول على مقعد للجلوس أثناء السفر..
دخلت إلى الحمام..أقصد إلى القطار..وأخذت في التقدم بحثا مكان ملائم أقضي فيه الساعة التي تفصلني عن وجهتي..
استمررت في التقدم وكأني أتجول في أحد أزقة المدينة القديمة..
هكذا هو القطار القادم من فاس والمتوجه نحو مراكش..
ممر ضيق..أصوات تنبعث من كل مكان..دخان السجائر...
عكس القطارات المتوجهة إلى الدارالبيضاء الميناء..والتي تشبه شوارع مركز المدينة المليئة بالموظفين والموظفات..ذوو السمت المتحضر..
تابعت السير..أنظر إلى الغرف ومن بها من ركاب..أتصفح وجوههم وأتفرس نظراتهم الفضولية التي يرمقونني بها أحيانا..و تلك الرافضة أن أشاركهم أنا أو أي شخص آخر في غرفهم رغم وجود مقاعد فارغة فيها..
أصحاب هذه النظرة..يحبون لإخوانهم ما يحبون لانفسهم..
يطالبون بحقهم في مقعد عند الصعود..ويرفضون نفس الحق لباقي المسافرين بعد الجلوس..
وجدت غرفة شبه فارغة..لكن صوت الرضيع خلفي ذكرني بأحمد..فترددت..وتابعت السير..
مررت بغرف أخرى بها مقاعد فارغة..لكن تقييمي للأشخاص الذين بداخلها جعلني أستأنف البحث..
فأنا أبحث عن الهدوء قبل الجلوس..
كان باب تلك الغرفة مغلقا..فتحته فلفح وجهي هواء ساخن كالذي ينبعث من الفرن..
إستأذنت..ثم سلمت وجلست..
في حيز مغلق كهذه الغرفة..يحاول كل واحد منا الحفاظ على تلك المسافة الآمنة بينه وبين الآخرين..
تتملكني رغبة قوية في الضحك في مثل هذه المواقف..
أتخيل كل تلك الخطوط الحدودية الوهمية التي تتدافع فيما بينها داخل الغرفة..
تلك الأقنعة التي يضعها المسافرون لإخفاء شخصياتهم الحقيقية (البسيطة)..
تلك الفقاعات التي تطفو فوق رؤوسهم والتي بداخلها نفس الأفكار المتعلقة بتفاصيل الغرفة وما يجري بداخلها..
رغم أن الجميع يتظاهر بالإنشغال..
إكتفيت بالإبتسام..حتى لا أصنف خطأ في خانة المعتوهين..
قمت أنزع سترتي.والتفت أنظر إلى باقي الركاب..
أمامي شاب يلعب بهاتفه الذكي يحاول الظهور بمظهر المرتاح..
بجواره فتاتين..إحداهما تحملق في كل اتجاه..والثانية تجلس حذاء النافذة قد أرهقها الملل وارتفاع درجة الحرارة..
أمام هذه الأخيرة تجلس فتاة أخرى منهمكة في التهام أحد الكتب..بجوارها مقعدين فارغين..
ثم محمدا الذي قام يفتح الباب حتى لا يذوب من فرط الحرارة..
كل شيء كان على ما يرام..مادام كل واحد يلزم "تيقاره"..
صوت مفاجئ: "مااااحطة الرباط أكدال!!"..
غادرت الفتاة المحملقة الغرفة وأغلقت الباب خلفها..
أحدهم يصرخ في الغرفة المجاورة..
جلبة في الممر..رافقها شعور غريب..
ساورني قلق مفاجئ من ظهور شخص يكسر الجو الهادئ داخل الغرفة..
يبدو أنني قد أصبحت من الذين يحبون لإخوانهم ...
رفعت بصري في اتجاه الباب فإذا برجل كهل في الخمسينات يضع قبعة رياضية ويمسك بمقبض الباب..
مظهره الخارجي يوحي أنه من أؤلئك الذين يبتلعون أسطر الجرائد في الصباح..
ليتقيؤوها على من يجالسونهم في المساء..
تصفح الوجوه داخل الغرفة..كأنه قد وجد ضالته..إندفع فاتحا الباب فدخل الغرفة..
لقد ظهر المنتظر..
كثيرا ما تساءلت لماذا يسخر منا قانون الجذب؟..
أكاد أجزم أن دواليبه تتحرك وفقا لهواه..
خصوصا في تلك اللحظات التي نكون في غنى عنه!!..
عرفت من الوهلة الأولى أنه شخص ثرثار..
ولم يكن ذلك مشكلا بالنسبة لي..فقد أنهي محادثته في مرحلة المقدمة إذا تجرأ على مخاطبتي..
لكن إذا تحدث إلى أحد الباقين!!؟..
دفعني بمرفقه أثناء جلوسه..إستدرت ببطء تجاهه ونظرت إليه نظرة محايدة..
إبتسم ابتسامة صفراء فاقع لونها ثم اعتذر..لكني لم أجبه..
مد رجليه وأخذ راحته جيدا..
أدركت حينها أن "مسخوط الشعب" قد اختار فريسته قبل ولوج الغرفة..
وهو يستعد ليبدأ خطواته في اصطيادها..
إستدار نحو الفتاة المنهمكة في القراءة..
حينها أغلقت بصري..وبدأت بالعد التنازلي : ثلاثة..إثنان..واحد..
"tu fais des études en économies?"
نظرت إلى ساعتي الذهبية متمتما: "دخلها بالفرونسي ذيل الكلب"..
فكرت في مغادرة الغرفة للحظة..
فقد أتحمل رمضاء القطار لساعة..لكنني..لا أتحمل "العصايرية"*..
قررت أن أبقى وأراهن نفسي على نوايا ذلك الرجل التي تتجاوز مجرد الدردشة..

هل سيصدق ظني في سيطرته على الفتاة وإرغامها على الحديث معه أكثر من ساعة؟

يتبع..

-----------
*العصايري: شي واحد ما عندو ما يدار..وتيجي يدوز بك الوقت 

0 تعليقات :