بحث

20/11/2017

ساعة في الجحيم - الجزء الثاني





إستدرت وجهي باتجاه باب الغرفة..
حركة دائمة في الممر المقابل..مسافرون يبحثون عن مقاعد يجلسون عليها..أكاد أجزم أن بعضهم صعد في محطات بعيدة ولازال لم يجد ضالته في هذا القطار الطويل الذي لا نهاية له..أخرون دفعهم الملل إلى التجول في عربات القطار وسبر أغواره تضييعا للوقت في انتظار صافرة السائق التي ستعلن نهاية الرحلة..
من حين لآخر تمر بعض الوجوه الغريبة والمكفهرة..يذكرني أغلبها بمشاهد من قطارات الفارويست في نهاية القرن التاسع عشر..
إسترسل صاحبنا في الكلام مع الفتاة بعد أن سمح لنفسه دون حرج باستراق النظر إلى محتوى الكتاب الذي كانت بصدد مطالعته..كان مضمون الصفحتين المفتوحتين كافيا ليجد مقدمة ملائمة تسهل له استدراجها في الحوار..
إستفتح كلامه بتأكيدات شفهية عامة ليقنعها أن لديه اطلاع وإحاطة بالموضوع..ثم أخبرها أنه موظف عالي في إدارة كلية الإقتصاد..
هندامه وطريقة كلامه يوحي بأنه مستخدم بإدارة شؤون الطلبة* لا غير..
تيقنت حينها أن "سلوقيات" جرمانية ستعبر من هذه الغرفة بسرعة فائقة في الأربعين دقيقة المتبقية من الرحلة..
يا إلهي..
كانت ردود الفتاة على صاحبنا قصيرة ومقتضبة..
مما يعني أنها كانت غير محبذة للحوار في هذه الأثناء وأنها منشغلة بدراسة الكتاب الذي بين يديها..
إلا أن نفَس صاحبنا كان طويلا ويقينه في الوصول إلى مراده كان كبيرا..
واصل مداخلاته بصوت مرتفع وبكل أريحية غير مكترث بالأشخاص الذين يقاسمونه الغرفة..
وفي كل مداخلة كان ينقح خطته ويراجعها مع تغيير زاوية الموضوع قصد إذابة الجدار المعنوي الذي تحتمي به الفتاة في ركنها..
بدأت هذه الأخيرة تتفاعل مع حواره وتظهر الإرتياح المتزايد مع استرساله في الكلام..
لم أكن بطبيعة الحال أنظر باتجاههم..لكن طريقة حوارهم كانت تعكس ذلك..
صخب بالممر..أحد المسافرين يندد ويستنكر تدخين أحد الوجوه المتسنطحة داخل القطار..
في غمرة ذلك الصخب المتزايد..ضحكت الفتاة..
حبس المرقة!!..
لاشك أن صاحبنا قد ضغط على الزر المناسب..
كردة فعل على ذلك..إستدار باتجاهها وأصبح أكثر ارتياحا في حواره معها..لدرجة أنه مد يده وأخذ الكتاب الذي بين يديها يتصفحه مسترسلا في التعليق على محتواه..
شعرت بالنرفزة..
ثم استدركت مسائلا نفسي: ما الذي يستفزك لهذه الدرجة حتى تشعر بالغضب!؟
حاولت ضبط نفسي لفهم ما يحدث..
هل هو صراع غريزي ذكوري حول من يفرض سيطرته في حيز مكاني محدود ؟؟
تخيلت المشهد في إحدى غابات السافانا في فيافي كينيا..
حيث قطيع من الأسود يتصارع فيه أسدين على النفوذ..
تمالكت نفسي من الضحك..
فلست أسدا ولا هو يرقى إلى فصيلة النمور..
لعلي ببساطة سئمت متابعة الأحداث ذات السيناريوهات المعروفة نهايتها مسبقا..
لعلي سئمت كثرة النماذج البشرية المتسنطحة التي تتدخل في ما لا يعنيها وتحشر نفسها في خصوصيات الآخرين غير مكترثة بأي شيء..
أم أنها قصتي مع القطارات؟..
رحلات مليئة بنفس المشاهد الكئيبة..
وتنتهي غالبا في نفس المحطات..
...
في النهاية..وقبل بلوغنا لمحطة النزول..
تمكن صاحبنا من الحصول..
على رقم الهاتف المنقول..
تحت مرآى ومسمع من الحضور..
بارك سائق القطار هذا الإنجاز صائحا:
"مااااحطة الدارالبيضاء المسافرين..دقيقة وقوف!"

0 تعليقات :